من نواحي تارودانت وجبالها الشامخة، أتت صرخة ولادة الفنان عموري مبارك. سنة 1951 وبالضبط بلدة " ايركيتن" .وبعد طفولة قاسية في احدى المؤسسات الخيرية، وبعد مسار دربة في الحياة كله تحد وتحمل مشاق، سيتعرف عليه الجمهور من خلال تجربة
" أوسمان" التي هي في الاصل امتداد لثلاثي " ياه" الشهير، قبل ان تكون مجموعة تجديدية في الاغنية الامازيغية، بل، كانت أول تجربة عضدتها ابداعات شعراء مثقفين، كان لهم دور بارز في إرساء قواعد الحركة الثقافية الامازيغية، وكيف لا و" اوسمان" التي تكونت سنة 1975 إنما كان أمر تأسيسها نابعا من توجيه الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي، حيث كان الهدف من المجموعة الفتية ، حسب الباحث والدكتور الحسين أوعزي هو " تجديد الحياة الامازيغية عامة..وقد تشتتت هذه الفرقة سنة 1977 ، وأكمل الفنان عموري مبارك مسيرتها الفنية بالاستمرار في الغناء الفردي لنفس الشعراء في هذه المرحلة..( نشأة الحركة الثقافية الامازيغية بالمغرب، ص116 )، رغم ان الباحث غفل الاشارة الى الفنان" سعيد بوتروفين" الذي واصل بدوره المسيرة بشكل فردي وإن لم يستمر طويلا، لكنه على الاقل أبدع العديد من الاغاني على نفس شاكلة ايقاع واسلوب " اوسمان"، أهمها على الاطلاق وأشهرها أغنيته " ءور ءيفولكي ءادوكان تالام ءايامارك" ..
وبالفعل، فإن عموري مبارك يختار دائما التعامل، في النصوص الغنائية،مع ابداعات نخبة من كبار المبدعين المهتمين بالثقافة الامازيغية، لذلك، نجده يتغنى بنصوص ابراهيم اخياط، علي صدقي أزايكو، محمد مستاوي، وغيرهم.. ولعل تلك التجربة تبقى نقطة ايجابية جدا في مسار عموري مبارك الفني، مادامت نصوصه الغنائية في الغالب رسالة من اجل إسماع صوت الثقافة الامازيغية التي كان تحررها من حصار السبعينيات والثمانينيات أمرا صعبا للغاية، فكان لزاما أن يكون هناك تحد للتهميش والمصادرة، وهي القضايا التي لم تعد مطروحة الآن بنفس الحدة، خاصة بعد المبادرة الملكية الرشيدة تجاه اللغة والثقافة الامازيغيتين..
بالاضافة الى جانب ارتباط تجربة عموري مبارك بتحولات الحركة الثقافية الامازيغية، تطغى على نصوصه الغنائية تيمتان أساسيتان : تيمة عشق الحرية وتيمة التحول والهجرة المستمرة، إن لم ندمج بينهما في الاصل لنعتبر التحول خاضعا لعشق الحرية.
يقول في أغنية " تازويت / النحلة" وهي من كلمات الشاعر محمد مستاوي:
تازويت نرا نيك ديم ءانمون
نسكر تامنت ءيشوان نبضوت
أي ما معناه :
اريد مرافقتك ايتها النحلة
لنصنع عسلا حلوا نوزعه
فهو يتمنى مصاحبة النحلة في بحثها الدؤوب عن رحيق الزهر، لهدف معين هو الاشتراك معا في افراز عسل يتذوق الجميع حلاوته، وعسل الشاعر هنا معنوي، يتجسد في الاغنية الجميلة والمعبرة، ذات الوقع الحسن على نفسية المتلقي وأفق انتظاره، الامر الذي يستلزم منهجية صارمة في اختيار المعاني والنصوص بكل عناية فائقة.
وفي مقطع آخر من نص " ءيلولوين" وهو من كلمات الشاعر الراحل علي صدقي أزايكو:
ءالولوي ءاغ مضلغ ءيسكاسن
دلن نيت س تكوضيوين
وهو ما معناه:
دفنت سنواتي في هجرة دائمة
سنوات ممزوجة بالالم
وهنا تختصر حياة الشاعر الراحل وكذا الفنان عموري مبارك بعده في كثرة التيه والبحث، في ظل الالم والمعاناة الشديدة.
ولعل أجمل النصوص التي تحضر فيها تيمة الهجرة او الترحال المستمر، نص " تموكريست/ المعضلة"، الذي ندرج منه المقطع التالي:
دونيت ءاداغ ءيبضان
كويان د ماني غ تين
ءيلوح زمان ءيجلوت
نبلا س تمالايت
ءار نكلا غ ءودرار
ءار نتلي غ ءونزار
تاروولت ن وودادن
ءورا نكرز ءيكران
ءولا نسروت ءانرار
ءيساوكان تكيالغ
ءاغراس نسرميتن
أي ما معناه:
فرقت بيننا سبل الحياة
كل حسب الوجهة
التي رماه فيها القدر، فتاه
ابتلينا بالترحال
ولزوم الجبال
نبحث في الشتاء
كهروب الوعول
لانحرث حقلا
ولا درسنا بيدرا
فأنا في تجوال مستمر
والطرقات انهكتني
ان القدر والزمن هو الذي يوجه رحلة البحث عن الارزاق، كل حسب الوجهة التي يتغياها، وبالتالي، يبدو الضرب في الارض ابتلاء لامفر منه ، يشبه حركية الوعول فوق قمم الجبال وعدم ثباتها في المكان الواحد، وذلك كله افرز حياة خاصة تفتقد الاستقرار، وهو المعنى الذي يرمي إليه حين ينفي امتلاك حقل يتطلب زراعته، كما ينفي امتلاك بيدر، إنها حرية مطلقة، تحررت من كل القيود التي قد تكبل انسيابها العفوي، وتلك خاصية كثيرا ما تبناها عموري مبارك حتى في استجواباته الصحفية ، خاصة حين يصر على تشبيه نفسه بالطائر المهاجر، بل عاد في ألبومه الاخير " أفولكي" الى الاقرار بنفس المعطى في نص اغنيته " ءاجديك ن تايري/
زهرة الحب" :
ءامارك ءايجلان ءايلال ءيكنوان
ءيك ءاغبالو وولاون ناك واكال
ءيبوغلو سرس ءوسغار ءولا ءيزوغار
ءامارك ءاف ءيكرز ءوفكان ءيمكر سرس
ياويكن ءامدن كرايكات يان د نتان
ياسي الرجا ندونيت ءيمون د ءيفيس
مامنك رايسكر زوند نكي ءيكلين
نفلكم ءاتمازيرت ليغد نلول
ءار نستارا دونيت رجوغ كيسنت
تبقى تجربة عموري مبارك اذن امتدادا لتجربة " أوسمان" ، بل تبقى من التجارب الامازيغية القليلة التي تمردت على التقاسيم الخماسية على مستوى الالحان، فهو يعتمد غالبا توزيعا موسيقيا حداثيا، يعتمد مقامات الاغنية العالمية بشكل ملحوظ، لكن دون اهمال كلي للاصول الخماسية التي نجدها حاضرة في بعض اغانيه، سيما وأن صوت الفنان عموري يمكنه ان يؤدي حتى الاغاني التقليدية لكبار الروايس مثلا، ممن يتميزون بنفس طويل كصوت المرحوم الحاج بلعيد الذي ابدع عموري في اعادة التغني ببعض ابداعاته خلال اوائل التسعينيات من خلال القرص المدمج الذي اصدرته وزارة الثقافة ويتضمن اعادة لألمع النصوص الغنائية الامازيغية القديمة.
واذا كانت الهجرة والترحال علامات دلالية قد تعتبر مدخلا لفهم تجربة هذا الفنان المتميز، فإنه من الجدير بالملاحظة انه لا يضعنا دائما في سياق ذاتي ضيق، بقدرما قد يتعامل مع التيمة نفسها في أبعادها الجماعية وما تحيل عليه من رموز ودلالات عميقة، كما هو الشأن في احدى اغانيه التي تغنى فيها بقصيدة للشاعر الراحل علي صدقي أزايكو، وشارك بها في احدى دورات مهرجان الاغنية المغربية، ليفوز بالجائزة الثانية بعدما قيل وكتب الكثير عن التلاعب الذي تضررمنه عموري الذي أكدت كتابات عدة آنذاك انه حرم من تتويج استحقه بامتياز، وكأن الاغنية الامازيغية لم تكن ابداعا يستحق الجائزة الاولى، رغم اننا حين نستعرض كلمات النص الذي اريد له التتويج ونقارنها هي ووعاءها اللحني مع اغنية " جانفيلي" لجاز ان نلاحظ الفرق الشاسع على مستوى الاداء، اللحن والكلمات..:
" جانفيلي" ءيدلت ءومدلو
ءيدلت ءومدلو، ماكيس ءيدلن
تيروكزا، د تمارا، د تكوضي غ ءولاون
تاروا ن تمازيرت ءينو كيس ءور ميارن
توروتن ءاتافوكت ءامدلو ءور تميارن
تايري ن تمازيرت ءايداري ءاتن ءيسوكن
يان واس ءاسا تقلن ءور تلكيمن
ءاركن نقان ءاوسان
" جانفيلي" سوس ءامدلو، ها تافوكت
ءور ياكوك غ ووسان ناغ واس مقورن
وهذا ما معناه :
" جانفيلي" دثرها الضباب
فمن دثر فيها؟
الرجولة، الشقاء،والغمة في الافئدة
ابناء بلدي فيها لم يألفوا
انجبتيهم ياشمس والضباب لم يألفوه
حب الوطن ، أهلي يدركونه
ولا ينتظرون الا يوما عظيما لم يبلغوه
فيمضون الايام والسنوات
تخلصي من ضبابك " جانفيلي"، هاهي ذي اشعة الشمس
ولن يكون بعيدا بلوغ يومنا المنشود
انه نص يمزج بين معاناة المهاجرين في " جانفيلي" الفرنسية وبين سطوع شمس الحركة الثقافية الامازيغية ومطالبها فيما يخص الحقوق الثقافية واللغوية، اذ قد نؤول " اليوم العظيم" بذلك اليوم المشهود الذي يعترف فيه للامازيغية بحقوقها اللغوية والثقافية، وبالتالي، فالضباب يبقى رمزيا بانتقاله تأويليا من المادية المحسوسة نحو المعنوي والمجرد، فهو رديف للعراقيل والتهميش الذي عانت منه الثقافة الامازيغية بالخصوص، لنحصل في نهاية المطاف على استنتاج ارجو ألا أكون
مبالغا فيه، وهو كون عموري مبارك استفاد من توجيه وشعر رواد الحركة الثقافية الامازيغية ( لاننس أن له ألبوما تغنى فيه بأمازيغية الاطلس والريف ) لكن تلك الحركة استفادت منه بدورها، مادام قناة من القنوات الفنية الملتزمة التي مررت من خلالها آراءها ومواقفها وتصوراتها.
لكن حضور توجيه تلك الحركة في تجربة عموري مبارك لا نؤكد انه هيمن على مجمل تجربته الفنية، لوجود نصوص تحررت من تلك الحمولة، وبالتالي احتفت بقضايا اجتماعية صرفة، والنموذج هو نص " وار ءيكر" :
ءاوالي دار ءور ءيلي ءيكر ءور ءيطاف ءامود
ءيفرحاس والي دار ءيكران ءاسرس ءيكرز
ءادنكرن زيك ءيكلين ءيغي ءاكالوغ ءوفوس
تجرا غ يان ءور ءيطافن ، ءيتوتلاس ءوزمز
نكرن ءيركازن مودان، كولو يان س يان
ءيفاغ ءوركاز ءيزوك ءيفل ءاراو ءولا ماس
دان ءيلكم تاووري نس ، تيغراد ءايك لحال
ملاد ءيسكا كاورن سومرن، ءازمز ءارجلون
ءار ءالاغ ءيوالي مي ءيبي ءوضار نيغ ءافوس
ءاكان ءاسمون ءيزلض، تيسواك كاغاتيلين
يقول ما معناه:
من لا أرض له ولا زرع
يسعد به صاحب الحقول ليستأجره
فيستيقظ باكرا لمباشرة الحرث
فالويل للمعدمين من قسوة الحياة
كل الرجال هاجروا، الواحد تلو الآخر
هاجر الزوج مخلفا الزوجة والابناء
بحثا عن عمل، بحثا عن أرزاق
فلو تقاعس لكان عرضة للضياع
أتألم لمعوق فقد ساقا او يدا
لأنه سيصاحب الفقر والضياع
ولكي نتواصل بشكل افضل مع النص، لابد أن نقرأه من خلال استحضار ارتباطه بالعالم القروي، حيث ثنائية مصدر العيش: الفلاحة او الهجرة ( سواء نحو المدينة او نحو بلدان اوروبية).
هناك اذن تراتبية على مستوى الاشتغال في المجال الفلاحي، اذ هناك من يمتلكون اراض يستفيدون من خيراتها، مقابل فئة تفتقد امتلاك اراض خاصة بها، مما يجعلها مضطرة للاشتغال في حقول الآخرين " خماسة"، وهذه الفئة المستضعفة هي التي يتعاطف معها الشاعر .
وحين تكون الظروف المناخية قاسية، فإن الفئة الكادحة التي لاتمتلك سوى مجهوذها العضلي، لاتجد الا آفاقا مسدودة سوداء، تلزمها ببديل الهجرة نحو عوالم المدينة الصعبة..
هكذا يتضح في المقطع الختامي بعد إنساني كبير،حين عرج الشاعر نحو الحديث عن فئة مستضعفة ليس بوسعها ولو استغلال القوة العضلية من اجل محاربة الجوع والكدح، وتتجلى في المعاقين، الذين تتضاعف متاعبهم جراء عاهاتهم الجسدية، فيحكم عليهم الزمن القاسي بالتيه بين الازقة، في اشارة مجازية للتسول..
ونختم هذه الوقفة امام تجربة الفنان الامازيغي الملتزم مبارك عموري، بالتعامل مع كلمات نص غنائي أنيق عنوانه " ءامانار" وهو بالمناسبة من ابداع الشاعر الروداني والباحث احمد بوزيد:
نساقسا ءامانار
ءاسمامي جدرناغ
ءيمون د ءوصميض
ءار ويسا ءيكنوان
ءيس ءيسن تمازيرت
ءولا ءافكان نس
ءيس ءيسن تاسوتين
لي ءيزرينين
ءيساول ءومانار
ءار يالا ءيكلين
يازند يات تغلاغالت
ءيناد كيسنت:
مامنك ءاور ءالاغ
ءاشكو سنغ دارون
ءاساقسا ءيخفنك
ءاكما زوند نكين
ساقسا ءيدرارن
ءولا ءاسغار ءولا ءاكال
ءولا ءيجاوان
ءار ءاقرا ياراتن
ن ويلي زرينين
وهو ما تعريبه :
سألت نجم " ءامانار"
والالم يعتصرني
بل رافق الصقيع
نحو السماوات العليا
هل يعرف بلدي
ويعرف اهلها؟
هل يعرف الاجيال السابقة؟
فأجاب النجم باكيا
ومرسلا صدى وصرخة، قال فيها:
كيف لا أذرف الدمع
وانا اعرف بلدك؟
فاسأل نفسك
يا أخي كما سألتني
اسأل الجبال
واسأل النبات والارض
اسأل الرياح العاتية
وتمعن في كتب اجدادك
النص محوره الاساسي ابداء نوع من افتقاد تحقق هوية الشاعر، وهو ما كان وراء خلق مناجاة للطبيعة، ممثلة في عنصر من عناصرها المتجسد في نجم الصباح " ءامانار" ، والذي تم تشخيصه من اجل ان يعكس هواجس الشاعر بشكل قوي.
واختيار نجم أمنار بالذات، اختيار موح ودال على مستويات عدة، أهمها ضعف نوره وانسجام ذلك المعطى مع الذات الشاعرة على مستوى افتقاد ملامح هوية واضحة، في نفس الوقت الذي يتناظر فيه الذاتي والموضوعي على مستوى حضور الظلمة، لتكون حالة النجم ملموسة حسية، لكن الامر يبقى معنويا بالاساس بالنسبة للانسان الرمز، او الفرد بصيغة الجمع، ان نحن نقلنا تجربة البحث عن الهوية وترسيخ الاعتراف بها، من حال المفرد الى الجمع ، مادمنا امام تيمة تتجاوز الانسان الفرد نحو الجماعة.
من تلك الزاوية، نستطيع ان نلاحظ بأن المحفزعلى مناجاة النجم يتمثل في الألم الداخلي الذي يعتصر كيان الشاعر، بسبب عدم تعرف الآخر عليه وعلى هويته، الامر الذي يحول السؤال عن البلد ، الاهل، الجبال، الارض وغيرها الى تنويع لسؤال اصلي هو سؤال الهوية ( لا يخفى في هذه القصيدة تناص ملموس مع الشعر الفلسطيني المعاصر، وبالتحديد مقاطع من " جواز سفر" لمحمود درويش).
ان المثير في اجوبة النجم، انها مجرد اسقاطات فنية، أقواها قوله " اسأل نفسك"، والتي هي مستوحاة من الفلسفة اليونانية القديمة ومعبد " دلفي" الشهير تاريخيا بذلك السؤال، والذي يعني ان الحقيقة والمعرفة تنطلق من الذات قبل الموضوع